الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
{سنفرغ لكم أيها الثقلان}..يا للهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان. ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك!الله. جل جلاله. الله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال. الله- سبحانه- يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين: الجن والإنس، في وعيد وانتقام!إنه أمر. إنه هول. إنه فوق كل تصور واحتمال!والله- سبحانه- ليس مشغولاً فيفرغ. وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري. وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقاً. فهذا الوجود كله نشأ بكلمة. كلمة واحدة. كن فيكون. وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر.. فكيف يكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالانتقام؟!وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}!ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل، يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض:{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا}..وكيف؟ وأين؟{لا تنفذون إلا بسلطان}.ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان..ومرة أخرى يواجههما بالسؤال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟!ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها، والتهديد الرعيب يلاحقهما، والمصير المردي يتمثل لهما:{يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران}..{فبأي آلاء ربكما تكذبان}!إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر- وفوق مألوف كل خلق- وفق تصور البشر وتصور كل خلق. وهي صورة فريدة، وردت لها نظائر قليلة في القرآن، تشبهها ولا تماثلها. كما قال تعالى مرة: {وذرني والمكذبين أولي النعمة} وكما قال: {ذرني ومن خلقت وحيداً} وما يزال قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان}.. أعنف وأقوى وأرعب وأدهى.ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر. مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة. وما يعقبه من مشاهد الحساب. ومشاهد العذاب والثواب.ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني:{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان}.وردة حمراء، سائلة كالدهان.. ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن، وينسق بين مداراتها وحركاتها. منها هذه الآية. ومنها: {إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا} ومنها: {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر} ومنها {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت} ومنها {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت} {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت} وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله. ولا يعلم حقيقته إلا الله..{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان}.. {فبأي آلاء ربكما تكذبان} ولا تكذيب عندئذ ولا نكران..{فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}.. وذلك في موقف من مواقف ذلك اليوم المشهود. الذي ستكون فيه مواقف شتى. منها ما يسأل فيه العباد، ومنها ما لا يسألون فيه عن شيء. ومنها ما تجادل كل نفس عن نفسها، وما تلقي به التبعة على شركائها، ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام! فهو يوم طويل مديد. وكل موقف من مواقفه هائل مشهود.وهنا موقف: لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان. ذلك حين تعرف صفة كل فرد وعمله. وتبدو في الوجوه معالم الشقوة سواداً، ومعالم النجوة بياضاً، ويظهر هذا وذاك في سيما الوجوه. ففي هذا الموقف هل من تكذيب ونكران: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}!{يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام}.وهو مشهد عنيف ومع العنف الهوان. حيث تجمع الأقدام إلى الجباه، ثم يقذف المجرمون على هذه الهيئة إلى النار.. فهل حينذلك من تكذيب أو نكران.وبينما المشهد معروض، والأخذ بالنواصي والأقدام والقذف في النار مستمر، يلتفت السياق إلى شهود هذا الاستعراض، وكأنهم حاضرون عند تلاوة السورة فيقول لهم:{هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون}.. هذه هي حاضرة معروضة- كما ترون- {يطوفون بينها وبين حميم آن}.. متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار! وهم يتراوحون بين جهنم وبين هذا السائل الآني. انظروا إنهم يطوفون الآن! {فبأي آلاء ربكما تكذبان}!هذه ضفة العذاب الأليم. والآن إلى ضفة النعيم والتكريم:{ولمن خاف مقام ربه جنتان}..وللمرة الأولى- فيما مر بنا من سور القرآن- تذكر الجنتان.
|